في عدد الربيع 2023 من مجلة إسكواير السعودية يطرح كاتب عمود إسكواير “عبدالله الخريّف” بشغف قضية مهمة تتناول حماية المباني التي قد تقع ضحية في السباق نحو العَصرَنة، بالتحديد تلك المباني التي لم تعد قديمة بما يكفي لاعتبارها أثرية وتراثية، وليست حديثة بما يكفي لتكون مبانٍ معاصرة ذات دور حيوي فعَّال.
يؤرقني هذا التساؤل دومًا؛ هل تشعر بمثل ما أشعر به؟ ذلك الإحساس بأننا دومًا في سباق مع الزمن، يلاحقنا ونلاحقه، وهو أمر مزعج بدرجةٍ كافية ليضعك في حالة من التذبذب وعدم الاستقرار الذهني –لا هنا ولا هنالك-. يخالجنا هذا الشعور مع تقدمنا في العمر، هل نحن صغار أم كبار؟ نشعر بأننا لم نعش تجارب الحياة، وفي الوقت ذاته لم ننته منها. أنا مفتون بهذه الفترة المحددة من الوقت، والسبب في ذلك أني عشت معظم حياتي بين هذه الثنائية، هنا أم هنالك؟
عند استماعي إلى الكتاب الصوتي لجوزيبي توماسي دي لامبيدوزا (النمر) ذا ليوبارد؛ سكن في ذهني وصف معين للشخصية الرئيسية. يصف الكاتب أميرًا عجوزًا في مدينة خيالية في إيطاليا خلال الفترة الانتقالية للاتحاد الإيطالي، ويُبيّن الكاتب مشاعر الأمير الهرم خلال فترة التحول من الممالك والإمارات المتناحرة، إلى دولة واحدة متوحدة. يرى حينها الأمير جيلا جديدًا يعتنق ويتبنى مبادئ ومظاهر العصر الجديد، ويبقى الأمير في مكانه، فهو أكبر من أن يشارك في التغيير، لقد ولى زمنه.
يتجول في قصر أجداده المهجور والمتصدع، إشارة لإقبال عصر جديد وأفول عصره. يشابههُ هذا القصر لحد كبير، كلاهما لن يكونا جزءًا من مستقبل إيطاليا، بل بقايا من أطلال الماضي، أصبح هذا المبنى في حالة تذبذب واضطراب، حيث إنه لم يكن قديمًا بما يكفي ليصبح من الماضي، ولا جديدًا ليواكب المستقبل.
نعيش في المملكة العربية فترة مذهلة لكتابة التاريخ، مرحلة انتقالية ذات تغيير سريع مع العديد من الفرص المثيرة، التي تصب جميعًا نحو رؤية المملكة 2030. لكننا لم نصل بعد، ما زلنا في خضم هذه الرحلة، والعديد من المنازل الجميلة والمباني العامة والمشاريع الحكومية في مرحلة انتقالية كذلك، تمامًا مثل ذلك القصر في رواية ذا ليوبارد (النمر)، يتساءلون عن دورهم اليوم، وفي العقود القادمة.
من الأشياء الداعية للفخر ضمن الحركة الثقافية في المملكة العربية السعودية حالياً هو الحفاظ على المباني التاريخية والثقافية، بداية من تطوير بوابة الدرعية إلى مدينة العلا الساحرة. بالإضافة لقيام مجموعة فنادق البوتيك بترميم القصور الملكية القديمة، وتطوير منطقة مستودعات جاكس وتحويلها لمنطقة فنية خلابة، ومع ذلك؛ فإن معظم هذه المشاريع هي مواقع قديمة جدًا. حيث أن الحفاظ عليها هو أمر مسلّم يتفق عليه الجميع.
لكن ما يهمني حقًا هي تلك المباني التي لم تعد قديمة بما يكفي لاعتبارها أثرية وتراثية، وليست حديثة بما يكفي لتكون مبانٍ معاصرة ذات دور حيوي فعَّال، هي تلك المباني التي تعود هندستها المعمارية لحقبة السبعينيات والثمانينيات، التصاميم القابعة بين ثنائية الماضي والحاضر، لا تنتمي إلى هنا ولا إلى هنالك. حينما أقبلت علينا تلك المباني كنا في خِضَمِّ فترة مليئة بالتفاؤل والنهوض، حينها دخلت التصاميم المعمارية الجديدة في سبعينيات القرن الماضي إلى المملكة العربية السعودية، وظهرت على أشكال المصانع الحديثة، والمؤسسات التعليمية، وكانت الخطوة الأولى في بداية تخطيط الأحياء والحدائق العامة.
كان ذلك زمن الطفرة المغمور بفوائض الثروة التي ولَّدَت تلك المباني والصروح الضخمة، مثل مطار الملك خالد الدولي، ومبنى البنك المركزي السعودي، والعديد من مباني الوزارات. حينها مثلت تلك المباني مستقبل المملكة العربية السعودية، وتوافد المهندسون المعماريون من شتى أنحاء العالم ليصمموا لأجل هذه الأمة المزدهرة. في ذلك الوقت كانت تلك هي المرة الأولى التي تُستَلهم فيها العمارة الحديثة من العمارة المحلية، لتُخرِج جماليةً عربيةً ما بعد حداثيَّة، ومن الأمثلة الرائعة على ذلك هو مبنى صغير يقع في الحي الدبلوماسي، صمم من قبل المهندس المعماري الراحل نبيل فانوس، وكان يضم البنك السعودي الهولندي. ولحسن الحظ تم تجديد المبنى من قبل وزارة الثقافة، وبات اليوم دارًا يضم مجموعاتٍ فنية، ليصبح وجهة ثقافية بارزة.
الأمر المحزن؛ أن العديد من هذه المباني التي تنتمي للعصر الحداثي المبكر -والكثير منها منازل سكنية خاصة- تتعرض للهدم اليوم، وهؤلاء هم من أدافع عنهم اليوم. هذه المنازل والقصور التي أتحدث عنها تحكي العديد من القصص الأيقونية عن زمن الطفرة في المملكة، عندما استقطبت العائلات السعودية المهندسين والمعماريين من شتى أنحاء العالم لتصميم منازلهم، كانت التصاميم تجريبية وباهظة الثمن، ولكنها شُيدت بإتقان منقطع النظير.
هنا يجب أن أبين سبب اهتمامي بهذا الأمر. غالبًا ما أقول بأنني مصمم وفنان أو كاتب. وكل تلك التسميات صحيحة، ولكن السر الذي أخفيه هو أنني مطور عقاري جيد، وهو ما جعلني على بينة من غاية هدم هذه المباني القديمة، واستبدالها بأخرى أكثر كفاءة وربحية، نعم قد تبدو الطريقة الأسهل والأكثر ربحية، إلا أن الثقافة ذات أهمية بالغة كذلك، فهي توَّاقة للأصالة، وهو اتجاه يحظى بدعم حكومة المملكة العربية السعودية.
إذا توقفنا لوهلة ونظرنا إلى هذه المباني بمنظور فردي بعقول منفتحة، فستظهر إمكانات هذه المباني. نعم قد تكون هذه المنازل كبيرة جدا للعائلات الحديثة، ومكلفة في التشغيل وتتطلب بعض الترميمات، إلا أنها بُنيت بشكل متقن، ويمكن أن تخلق العديد من المساحات الثقافية الفريدة في كل من الشقق والمكاتب والعيادات والمطاعم والمقاهي والمكتبات والاستوديوهات ومراكز التجميل والمدارس والفنادق، آمل أن الفكرة واضحة الآن، لدى هذه المباني العديد من القصص التي تستحق أن تروى وألا تستبعد، ومن السهل أن نوظفها للجماهير.
أود أن أجادل أيضًا من منطلق تنموي، بأن الإبقاء على هذه المباني هو الحل الأمثل من حيث التكلفة والوقت. كيف أعرف ذلك؟ لأنني عملت في مشاريع تُثبِت ذلك. بالطبع هناك تحديات، يتعلق معظمها باللوائح الحكومية الخاصة باستخدامات الأرض ومساحات مواقف السيارات، ولكن المشاريع الجيدة تتطلب قدرًا من التحدي!
يساهم الحفاظ على هذه المباني من تعزيز التنوع المعماري وفرادته في مدننا، لتصبح مواقع فاعلة وحيوية للمجتمع. يصرح الفنان اليوناني أنجيلو بليساس الذي أنهى إقامته الفنية في منطقة جاكس بالرياض، قائلًا: “بات التفاعل الجسدي بمثابة رفاهية في زمننا هذا” وهو على حق، حيث تمكنت من التعرف عليه كصديق في منطقة جاكس التي ُأعيد تطويرها لتصبح منطقة حيوية للتفاعل البشري.
تختص بيئتنا العمرانية بكونها في حالة تذبذب وإضراب. إلا أن هذا العرف المعماري يجب أن يتطور بشكر مستمر كل بضعة عقود. لنأخذ مسرح كوداك القابع في مدينة لوس أنجلوس على سبيل المثال، حيث جُدد بالكامل، بالإضافة إلى الحي الذي يقع فيه، وبات اليوم موطنًا لاستضافة حفل جوائز الأوسكار والعديد من الأحداث الترفيهية العالمية. بإمكاننا أن نصنع شيئًا مشابهًا لمهرجان البحر الأحمر السينمائي، والشيء بالشيء يذكر؛ آمل أن أحصل على تذكرة للمهرجان في عام 2024، لدي الوقت لأعمل على ذلك.
آن الأوان لنحتضن هذا المزيج المعماري القابع بين القديم والحديث، مع الحفاظ على التقدير الذي نُكنُّه في قلوبنا للعمارة التاريخية. ومع ذلك؛ تجسد هذه المباني حالة التذبذب والاضطراب التي نعيشها اليوم، واهتمامنا بهذه المباني هو انعكاس لاهتمامنا بأنفسنا!
Comments