تتغيّر معاني الكلمات بتغيّر المكان والزمان... ومن تلك التي تغيّر معناها من السلبي إلى الإيجابي في السنوات العشرة الماضية هي كلمة Disruption أو بالعربيّة الإرباك، الذي أصبح في عصرنا الحديث أمراً مرغوباً لإحداث تغيّر للأفضل . ولا يوجد وقت في السنة يُربك حياتنا العصريّة بسرعتها وخططها وتشتيتها وفعاليّتها وإنتاجيّتها مثل شهر رمضان المبارك! وهذا شيء إيجابي! والمضحك في الموضوع أنّ رمضان دائماً يأتي فجأة... أو هكذا نشعر، مع العلم أنّه الشهر التاسع من السنة الهجريّة، ومن المعتاد أن نخطّط له نوعاً ما، أيّ أنّنا سنسافر مثلاً قبل رمضان أو سنحدّد موعدَ اجتماع أو سنقيم حفلاً ما أو زفافاً في عيد الفطر... ومع ذلك في كلّ سنة ومع كلّ الحماس والاستعدادات له من ناحية المستلزمات والمأكولات والصدقات أو الأعمال الخيريّة التي تكون في شهر شعبان، إلّا أنّ اكتمال شعبان ثلاثين يوماً من عدم اكتماله يحدث كلّ هذا الفرق. فيوم واحد ذو أثر كبير وغريب.
وتنقلب الحياة والبيت رأساً على عقب، وتعمّ الفرحة في سباق لإكمال المستلزمات هذه. وفي خلال دقائق قليلة من إعلان أنّ غداً أوّل أيّام رمضان، تجد أنّ عقلك وروحك أدركا أنّ الحياة اليوميّة تغيّرت، شئت أم أبيت، مستعدّ أو غير مستعدّ. لقد بدأنا!
بيان من الديوان الملكي... جاءنا من مجلس القضاء الأعلى ما يلي:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آلة وصحبة وبعد ...
في هذه اللحظة يتسمّر السعوديّون أمام التلفاز للحظة الحاسمة ويسود الصمت وتصغي الآذان:
لقد ثبت شرعاً لدى مجلس القضاء الأعلى دخول شهر رمضان المبارك لعام 1444 للهجرة هذه الليلة، ليلة كذا وكذا.. حسب تقويم أم القرى الموافق يوم كذا من شهر مارس لعام 2023 للميلاد وذلك بشهادة شاهدين عدلين. وبهذه المناسبة فإنّ مجلس القضاء الأعلى يسأل الله عزّ وجلّ أن يوفق المسلمين للعمل الصالح وأن يتقبّل صومهم ويجمع شملهم على الحقّ أنّه سميع مجيب. (نص بيان رمضان 1409 هجرية).
رمضان في العصر الحديث شيء عجيب، يكاد يكون من الأحداث القليلة المتبقيّة التي نعتمد فيها على الطبيعة الكونيّة والقدرة البشريّة فقط. فيذكّرنا بأنّنا ننتمي إلى هذا الكون وهذه الأرض كمخلوقات لها مكان في الطبيعة. تتداخل فيه الطبيعة والروحانيّة والصحّة البشريّة والعمل التجاري والزراعي والإنتاجي والفنّي والاجتماعي والديني، والنفسي والتكنولوجيا والأجواء والأجرام السماويّة والأقمار الصناعيّة، ويتزاوج فيه العصر الحديث مع الإنسان البدائي القديم. ومع كلّ التقدّم العلمي الذي وصلت إلية الحضارة الإنسانيّة في جميع جوانب حياتنا العصريّة، إلّا أنّ رمضان لا يدخل إلّا برؤية القمر بالعين المجرّدة. وإنّني لأرى في هذا المعنى جمالاً وتواضعاً ورضوخاً مطمئناً لانتمائنا لشيء أكبر منّا وتذكير لنا أنّنا بشر ولسنا آلات.
معنى كلمة رمضان
تعرّف معاجم اللغة العربيّة اسم رمضان بأنّه جاء من الجذر اللغوي (رمض) أو من (الرمضاء) أيّ شدّة الحرارة. ويبدو والله أعلم أنّ الشهر سُمّيَ بهذا الاسم في فترة عند العرب عندما كان رمضان يأتي في فصل الصيف. ولكن لاختلاف عدد أيّام السنة الهجريّة مع السنة الميلاديّة، فيتغيّر موقع رمضان بين الفصول عبر الزمن حيث أنّه يعود إلى الصيف كلّ ثلاثة وثلاثين سنة تقريباً، اذا اعتبرناها نقطة البداية من آلاف السنين مع بداية التسمية. أيّ أنّ الانسان قد يشهد رمضان في فصول مختلفة من عمره. ومع اختلاف الفصول تختلف الطقوس. ولرمضان طقوس كثيرة مشهورة تختلف باختلاف الجغرافيا والثقافات والدول والأزمان. فرمضان الثمانينات في جدّة مثلاً يتميّز بفوازير نيللي وشريهان التي تبثّها القنوات المصريّة وتصل موجاتها إلى تلفزيونات جدّة لقرب المسافة. ويختلف ذلك عن القرقيعان في رمضان الثمانينات في المنطقة الشرقيّة الذي هو من موروثات منطقة الخليج العربي.
أمّا رمضان التسعينات في الرياض، بنهاره القصير وليله الشتوي، وزياراته الطويلة ومسلسلاته عبر الأقمار الصناعيّة وسهولة صيامه، فيختلف بطقوسه عن رمضان 2010 الصيفي في مدينة أبها فوق الجبال، من دون واي فاي ونيتفلكس و منصّة شاهد. حيث أنّ كلّ هذه المتغيّرات تجعل رمضان متغيّراً أيضاً. وقلّة منّا من تدرك ذلك. ولا ننسى أنّنا في رمضان 2020 صمنا في الحجر بسبب جائحة كورونا وغاب عنّا لمّ شمل العائلة والصلاة في المساجد والعمرة في مكّة المكرّمة. كانت أيّام صعبة نحمد الله أنّنا تجاوزناها.
دافع مقنع متناغم بين الجسد والعقل والروح
تطفو مجموعة من المشاعر والأحاسيس الكامنة داخل أجسادنا و أنفسنا في اليوم الرمضاني، دائماً ما نتجاهلها أو نتعامل معها وغالباً ما نعالجها من دون تفكير. وتتضاعف هذه الأحاسيس عند الصوم، مثلاً لدى شرب القهوة عند الاستيقاظ للعمل، وقدرة الجسم والوقت المطلوب للتركيز، وشعور العطش بعد وجبة سحور مالحة، فكيف يمكنك أن تتحمّل ذلك؟ فضلاً عن تأثير أصناف الأطعمة على الجسم، ومدى صبرك على الإجهاد بدون ماء أو قدرة التركيز في القراءة. كذلك إحساسك بالوظائف الجسديّة وكيفيّة تعامل الجسم البشري مع عوامل عدّة كالصداع والجوع والعطش والإجهاد و غيره. وممّا يثير الدهشة أيضاً هي المشاعر النفسيّة: كالصبر والتحمّل وعدم الغضب والانفعال، لئلا يُجرح صومك ولئلا ينشف ريقك عند الصراخ مثلاً. والأهمّ من ذلك الإثبات العملي لقوّة جسدك وعقلك وروحك. وتجتمع هذه العوامل بشكل متناغم للتذكير أنّ لديك القدره لتحمّل العطش و الجوع والغضب والاجهاد مع استمرار متطلّبات الحياة . والسبب وراء ذلك وجود دافع مقنع متناغم بين الجسد والعقل والروح .
الدقيقة الأخيرة قبل الآذان
فلنتخيّل استخدام هذا المعنى في جوانب أخرى من حياتنا، مثل تحقيق هدف أو أمنية لكيفيّة تدريب أنفسنا على استخدام هذا التعاون الثلاثي لصالحنا أو لمجتمعنا. وقلّما ندرك قدراتنا بسبب التشتّت الذي تجبرنا عليه الحياة العصريّة. ومن هذا المنطلق أيضاً، ندرك عامل الوقت أو الزمن. فإحساسنا بساعة فراغ في نهار رمضان مختلف عن ساعة في يوم عادي، لانعدام خيار الأكل أو لقاء الأصدقاء لشرب القهوة، أو ممارسة رياضة مجهدة لتفادي العطش أو غيرها من الأنشطة الروتينيّة التي قد تجرح الصوم. أمّا الدقيقة الأخيرة قبل الآذان فطويلة جدّاً. إنّما قبلها بقليل يتغيّر حال البيت أو المكان للاستعداد للإفطار، ويدبّ النشاط في البيت العائلي الكبير، ويصل الأهل والأحباب، وتجتمع الأسرة والأصدقاء، ويختلط لعب الصغار مع دعاء الكبار ، وتترقّب لسماع الآذان وتتمنّى أنّ ما فعلته اليوم صيام مقبول. كما نتذكّر من كانوا معنا في رمضان السابق وندعوا لهم بحزن وأمل، ونتواصل مع من هم في مكان مغترب للإطمئنان على صيامهم وإفطارهم.
والأهمّ من ذلك هل يفطرون مع أحد أو بمفردهم؟ غريب تعاطفنا مع من يفطر وحيداً. وفي هذه اللحظة كلّنا ندرك بدون وعي أنّ الإنسان كائن اجتماعي لا يجب أن يعيش لحظة الاحتفال بنهاية يوم صيام بحلوه و مرّه وحيداً، ويستقبل احتفال الإفطار وحيداً. سواء كان مسلماً أو لا. حيث يجبرنا رمضان على الأخوّة والتواصل والتسامح، سواء رغبة في الأجر فقط أو رغبة صادقة لجبر الخواطر وإنهاء الخلاف. الجميع يحرص على الاجتماعات والتواصل و صلة الرحم.
الحالة الرمضانيّة الفريدة
بدأت هذا المقال بالتفكير في طقوس رمضان في المملكة العربيّة السعوديّة. وهي كثيرة جدّاً سواء الدينيّة مثل صلاة التراويح وصلة الرحم، أو الاجتماعيّة مثل التجمّعات والمأكولات والمشروبات مثل العصائر والفيمتو, أو المسلسلات التي لها بصمة اجتماعيّة مثل طاش ما طاش. ولكن بدون قصد اكتشفت أنّ مع عصر العولمة والتواصل الاجتماعي انحرف الحديث إلى علاقة الإنسان بالحالة الرمضانيّة الفريدة في هذا الوقت من الحضارة البشريّة. وعند اختلاط الأمور علينا وكثرة الصعوبات والمشاكل التي نمرّ بها، لا بدّ من العودة إلى الداخل أحياناً و سؤال الأسئلة الأوليّة من جديد، من نحن وما هو رمضان.
وختاماً أجمل ما في رمضان هو الشعور الحقيقي الكامن داخلنا بالأمل. أمل في المغفرة، أمل في الرحمة، أمل في التسامح، أمل في قبول العمل، وأمل في غد أفضل سواء في الحياة أو بعد الممات. فإذا هلّ هلال رمضان، أبشروا بالأمل.
Commentaires